فهد أبو الفضل
نشر في:
الأربعاء 30 أبريل 2025 – 3:15 م
| آخر تحديث:
الأربعاء 30 أبريل 2025 – 3:15 م
حددت وزارة الأوقاف موضوع خطبة الجمعة المقبلة بعنوان: “ونغرس فيأكل من بعدنا”.
وقالت وزارة الأوقاف إن الهدف من هذه الخطبة توعية الجمهور بفضيلة الإتقان في كل شيء، وأثر ذلك في تقدم الأمم، علما بأن الخطبة الثانية تتناول التحذير من حبة الغلة، وضرورة بث الأمل في القلوب.
وإلى نص القضية:
الحمد لله رب العالمين، هدى العقول ببدائع حكمه، ووسع الخلائق بجلائل نعمه، أقام الكون بعظمة تجليه، وأنزل الهدى على أنبيائه ومرسليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلها أحدا فردا صمدا، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه، أرسله الله تعالى رحمة للعالمين، وختاما للأنبياء والمرسلين، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فقد ذكر المؤرخون أن ملكا من ملوك فارس كان يسير بموكبه يوما، فعبر على شيخ كبير يغرس شجرة لا تنبت إلا بعد مائة عام، فقال له الملك: إن شأنك لعجيب، أراك قريبا من الموت ثم ها أنت ذا تغرس شجرة لا تنبت إلا بعد مائة عام، ما أطول أملك! فقال له الرجل: أصلح الله الملك! لقد غرس من قبلنا فأكلنا، ونحن نغرس ليأكل من بعدنا!
أيها الناس، فلنبث هذه الثقافة في نفوسنا وفي مجتمعنا، نغرس ليأكل من بعدنا، ننتج لينتفع من بعدنا، نتقن لننير الدنيا لمن بعدنا، وها هو اللسان الأشرف يدلنا على هذا الطريق الأنور من الإتقان والبذل والسخاء والإيثار، فيقول صلى الله عليه وسلم: «إن قامت على أحدكم القيامة، وفي يده فسيلة فليغرسها».
ويا من تغرس ليأكل غيرك، أتقن غرسك! وانتظم في سلك الإبداع والإتقان الإلهي؛ فإن الكون كله يشهد على عظمة الخالق وبديع صنعه، ويشير إلى إتقان لا يضاهى، وإحكام لا يبارى، وكل نفس سوية تحمل في طياتها بذرة الإتقان، وروح العطاء، ورغبة في ترك بصمة نافعة في هذه الحياة! وهذا هو الحال النبوي الشريف ممزوجا ببيان المحبة الإلهية «إن الله تعالى يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه».
فلنتساءل أيها الكرام، هل نحن حقا نصل بأعمالنا إلى أقصى درجات الجودة والتميز والكمال؟! هل حققنا تلك الوصية المحمدية الخالدة «إن الله كتب الإحسان على كل شيء»؟! هل تدبرنا سير الصحب الكرام رضوان الله عليهم، كيف سرت فيهم روح الإتقان في كل عمل سريان ماء الورد في الورد؟ فهذا سيدنا بلال رضي الله عنه يؤذن للصلاة بصوت ندي جهوري، يحرص على إبلاغ نداء الحق بأحسن صورة وأعذب بيان، وبين يديك سيرة سيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه يخطط للمعارك بإتقان وإحكام وبراعة، وهذا سلمان الفارسي رضي الله عنه يبهر الدنيا بفكرة الخندق المبدعة، فكان مقامهم- أهل المدينة الفاضلة- مقام الإحسان «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك».
أيها النبيل، ليكن في شريف علمك أن الإتقان ضرورة لا رفاهية، ففي عالم يموج بالتحديات لا رقي لمجتمعنا إلا بالعمل المتقن الذي يحمل في طياته روح التفاني والإخلاص، فلنزرع بذور الإتقان في كل ميدان، في عبادتنا، في وظائفنا، في صناعتنا، في تجارتنا، في تعليمنا، في علاقاتنا الإنسانية، فلنجعل من كل عمل لوحة مبدعة تستحق التأمل، ولسان صدق يتردد في أرجاء الكون، لنكن للدنيا قصصا ملهمة، وحكايات وسيرا محفزة، وأثر ممتدا باقيا ما بقيت الدنيا.
عباد الله، اعلموا أن إتقاننا للعمل في كل ميدان هو سر نهضتنا ومداد رقينا، عندما يخلص الطبيب في علاجه، ويجتهد المهندس في بنائه، ويبدع العامل في صنعته، ويسهر الجندي على حماية وطنه، فإننا نبني مستقبلا مشرقا لأبنائنا وأحفادنا، فالحياة قصيرة، وعلى كل منا أن يترك فيها الأثر الطيب، والعمل المحكم، والغرس الممتد، والبصمة الباقية، لنكن كالنخلة الشامخة، ترمي بخيرها دائما، ويأكل من ثمرها كل عابر سبيل، وليكن حادينا نداء الله جل جلاله {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون}، ولنغرس أيها الكرام ليأكل من بعدنا.
وإلى نص الخطبة بعد جلسة الاستراحة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن «حبة الغلة» شبح أسود، ورمز موت مخيف، وبوابة عدم موهوم، ووعد زائف براحة أبدية، فيا من أثقلتك الهموم، وكدرت خاطرك أعباء الحياة، ولاحت في عينيك غيوم اليأس القاتمة، أسألك بربك: هل هذه الحبة تحمل الحل؟ هل الانتهاء هو الانتصار؟ هل الهروب هو الخلاص؟! أم أن الملجأ والملاذ والنجاة والفلاح في الفرار إلى «الله جل جلاله» الرحمن، الرحيم، الودود، الكريم، التواب، الرزاق! أيها النبيل اعلم أنه {لا ملجأ من الله إلا إليه}.
اعلم أيها الحبيب أن علاج الهم واليأس ليس في ابتلاع السم، بل في بَث الأَمَل، الأَمَل الَذي يولَد من رَحم الأَلَم، الأَمَل الَذي يزهر في قَلب اليَأس، الأَمَل الَذي يضيء كَقنديل في عَتمَة الروح، الأَمَل لَيسَ مجَرَدَ كَلمَة عَابرَة، بَل إنَ الأمَلَ فعل، الأَمَل سَعي، الأَمَل إيمَان بأَنَ الغَدَ يَحمل في طَيَاته فرَصا جَديدَة للنَجَاح، وَأَشعَةَ شَمس دَافئَة تنير القلوبَ، وَابتسَامَات صَادقَة تزيل الهمومَ، الأَمَل هوَ أَن نَرَى في كل عَثرَة دَرسا، وَفي كل سقوط نهوضا، وَفي كل ضيق فَرَجا {فَمَا ظَنكم برَب العَالَمينَ}.
أَيهَا الكرَام، نَعلَم جَميعا أَنَ الحَيَاةَ لَيسَت دَائما سَهلَة مبهجَة، فقَد تَعصف بنَا الريَاح، وَتَشتَد بنَا الأَموَاج، وَقَد نَضل الطَريقَ في الظَلَام، وَلَكن لَا تَستَسلموا لهَمَسَات اليَأس، وَلَا تصَدقوا وعودَ المَوت الكَاذبَة، ابحَثوا عَن بَصيص النور في أَعمَاقكم، تَمَسَكوا بخيوط الأَمَل الرَفيعَة، وَاسمَحوا للحَيَاة أَن تَهَبَكم جَمَالَهَا المتَجَددَ!
عبَادَ الله، إنَ الخَلَاصَ لَيسَ في حَبَة غَلَة قَاتلَة، بَل في حَبَة أَمَل بَاسمَة نَزرَعهَا في قلوبنَا، وَنسقيهَا بالإيمَان وَالعَمَل، لتزهرَ حَيَاة جَديدَة، مشرقَة، مَليئَة بالبَهجَة والسرور وَالأنس وَالحبور، فَلنَنبذ حَبَةَ الغَلَة، وَلنَحتَضن حَبَةَ الأَمَل، وَلنعلنهَا بلسَان مفعَم بال