في عصر كاميرات المراقبة وبرامج التتبع.. دراسة: شعور الانسان أنه مٌراقب يؤدي إلى تغيير أنماط التفكير

شارك هذه المقالة مع أصدقائك!





سان فرانسيسكو – د ب أ



نشر في:
الخميس 29 مايو 2025 – 12:09 م
| آخر تحديث:
الخميس 29 مايو 2025 – 12:09 م

في عام 1785، ابتكر الفيلسوف الانجليزي جيريمي بانثام ما اطلق عليه اسم “السجن المثالي”، وهو عبارة عن مجموعة من الزنازين المشيدة بشكل دائري حول برج في المنتصف داخله حارس مستتر يستطيع أن يراقب حركة المساجين دون أن يرونه، بحيث يفترض السجين طيلة الوقت أن الحارس ربما يراقبه، وهو ما يضطره إلى التصرف والتعامل من هذا المنطلق بشكل دائم. وبالمثل يشعر الكثيرون في العصر الحالي أن طرفا ثالثا مجهولا يراقبهم باستمرار، فملايين الكاميرات التي تعمل بأنظمة الدوائر التليفزيونية المغلقة تتابعك بشكل دائم بينما تسير وتقود سيارتك وتشتري احتياجاتك، بل أن معادلات خوارزمية تعمل بتقنيات الذكاء الاصطناعي تتابع نشاطك على الانترنت ومواقع التواصل وتتعرف على اهتماماتك على مدار الساعة، لاسيما وأن بعض التطبيقات الحديثة تستطيع تحديد هويتك بمجرد الاطلاع على ملامح وجهك.

ويقول كليمنت بيليتير اخصائي علم النفس بجامعة كليرمونت أفيرن في فرنسا إن “تأثير الشعور بالمراقبة يعتبر من القضايا الرئيسية التي يهتم بها علم النفس”. وقد أثبت عالم النفس نورمان تربليت عام 1898 أن الدراجين يبذلون جهدا أكبر في التسابق في حضور المتفرجين. وفي سبعينيات القرن الماضي، أكدت الدراسات أن الانسان يغير من سلوكياته عندما يشعر أنه مٌراقب، حفاظا على وضعه وشكله الاجتماعي. وكشفت أبحاث أجريت على مدار عشرات السنين أن الشعور بالمراقبة لا يغير السلوكيات فحسب، بل يتسلل إلى داخل العقل ويغير طريقة التفكير أيضا، ويؤكد باحثون أن هذه النتائج تثير مخاوف بشأن الصحة النفسية للبشر بشكل عام.

واثبتت التجارب أن الانسان يستشعر بشكل فوري أن شخصا ما ينظر إليه ويراقبه، حتى في الأماكن المزدحمة، وأن هذه الخاصية تظهر في مرحلة مبكرة من العمر. وتقول كلارا كولومباتو المتخصصة في الإدراك المعرفي الاجتماعي بجامعة ووترلو في كندا إن هذه الخاصية تطورت على الأرجح لدى الانسان الأول حتى يستطيع رصد الضواري التي تريد افتراسه، وهو ما يفسر الشعور بعدم الارتياح الذي ينتاب الشخص عندما يشعر أنه مٌراقب، وينعكس هذا الشعور الداخلي في بعض المؤشرات الخارجية مثل التعرق على سبيل المثال. وأضافت كولومباتو في تصريحات للموقع الإلكتروني “ساينتفيك أمريكان” المتخصص في الأبحاث العلمية، أنه على مستوى الوعي، يتصرف الانسان بشكل مختلف عندما يكون تحت المراقبة، حيث تصبح سلوكياته متماشية بشكل أفضل مع أعراف المجتمع، حيث تتراجع احتمالات أن يقوم الانسان بالغش أو إلقاء النفايات في الشارع مثلا عندما يكون مٌراقبا. وتعزز مثل هذه النظريات فكرة أن المراقبة تعود بالفائدة على المجتمع، لمنع بعض السلوكيات الضارة مثل الجريمة، وهو ما يتفق مع رؤية الفيلسوف جيرمي بانثام بشأن “السجن المثالي”.

ولكن في السنوات الأخيرة، وجد بعض الباحثون في علم النفس أن الشعور بالمراقبة يؤثر على الوظائف المعرفية للإنسان مثل الذاكرة والقدرة على التركيز.

فقد وجدت تجربة أن المتطوعين الذين يؤدون عملا يتطلب مهارة معرفية أو استدعاء معلومات من الذاكرة يكون أداؤهم أسوأ عندما توضع أمامهم صور فوتوغرافية لأشخاص ينظرون إليهم. واستخلص الباحثون من هذه التجربة أن النظر بشكل مباشر إلى شخص ما يؤدي إلى تشتيت تركيزه ويضعف قدرته على الأداء.

وخلصت تجارب أخرى إلى أن وظائف عقلية أخرى مثل الإدراك المكاني أو قدرات المعالجة اللغوية تتأثر سلبا أيضا عندما يشعر الشخص أنه تحت المراقبة.

وتقول الباحثة كايلي سيمور من جامعة العلوم التكنولوجية في سيدني بأستراليا إن الشعور بالمراقبة يؤدي إلى تسريع آليات معالجة المعطيات الاجتماعية لدى الانسان لأقصى درجة، وتنشيط غريزة حب البقاء التي تعرف باسم /قاتل أو اهرب/، وهذه الآلية لها تأثير على القدرات العقلية”. وأوضحت سيمور في تصريحات للموقع الإلكتروني “ساينتفيك أمريكان” أن “العيون الإلكترونية” التي تنظر إلينا تؤثر على الصحة العقلية، ولها تأثير أسوأ على مرضى بعض الأمراض العقلية مثل الفصام، وقد تؤدي إلى القلق الاجتماعي بل والشعور بالتوتر. وأضافت: “الشعور بالمراقبة الدائمة في العصر الحديث يجعلنا منتبهين إلى البيئة الاجتماعية التي نعيش فيها بشكل دائم، ومتأهبين للتفاعل”.

ويسلط الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكا الضوء مجددا على نظرية “السجن المثالي” التي طرحها جيريمي بانثام، قائلا إن شعور المرء أنه تحت المراقبة أصبح متجذرا داخل الانسان نفسه، بمعنى أنه على غرار السجين داخل الزنزانة، أصبح الرجل العصري يشعر باستمرار أنه يخضع لمراقبة خوارزميات الذكاء الاصطناعي وبرمجيات التواصل الاجتماعي وتطبيقات فك الشفرات، دون أن يعرف من الذي يراقبه على وجه التحديد. ويرى عالم النفس كليمنت بيليتير أن الشعور الدائم بالمراقبة يؤثر على الإدراك المعرفي بطريقة لا نفهمها تماما حتى الآن، ويوضح أن “القدرات العقلية التي تتأثر سلبا بالمراقبة هي نفس القدرات التي تجعلنا نركز وننتبه ونسترجع الذكريات”، وبالتالي عندما تجهد هذه القدرات تحت تأثير المراقبة، تتراجع قدرة الانسان على التركيز مثلا. وأثبتت مجموعة من الدراسات أن شعور الموظف أنه يخضع للمراقبة في بيئة العمل تقلل الانتاجية، وأن الطلاب الذين يخضعون لاختبارات أمام كاميرات المراقبة يحققون درجات أقل. وتختتم الباحثة كلارا كولومباتو حديثها قائلة: “قبل خمسين عاما، لم يكن لدينا مثل هذا القدر من المراقبة والوصلات الاجتماعية، فنحن نعيش في سياق اجتماعي جديد لم نألفه حتى الآن، وبالتالي من المهم أن نفكر في تأثير ذلك على قدراتنا المعرفية بما في ذلك في إطار اللاوعي لدى الانسان”.

‫0 تعليق

اترك تعليقاً