دينا النجار
نشر في:
الأحد 6 أبريل 2025 – 10:31 ص
| آخر تحديث:
الأحد 6 أبريل 2025 – 10:31 ص
صوتٌ ملائكي يُجيد مخارجَ الحروف وأحكامَ التجويد، شق سكون الليل خلال صلاة التراويح في رحاب الأزهرِ الشريفِ، وخطف القلوب بتلاوته العطرة التي أعادت إلى الأذهان ذكرى عمالقة قراء مصر.
رغمَ فقدانه البصر، لم يفقدِ البصيرة، فذاع صيته عبرَ وسائلِ التواصلِ الاجتماعي وسطَ إعجابِ الملايين، ليصبح الطالب الأزهري محمد أحمد حسن، بعمرِ الـ19، أصغر إمام من ذوي الهممِ في تاريخ الأزهرِ العريق.
وفي حوارٍ خاص مع “جريدة الشروق”، كشف الطالب محمد أحمد حسن بالصف الثالث الثانوي بمعهد أبوقير الأزهري، عن رحلته مع القرآن الكريم منذ طفولته، وجوانب إنسانية مؤثرة، حتى أصبح رمزًا للعزيمة، متحدثًا عن شغفه بالتلاوة وأحلامه.
-بداية مبكرة وحفظ بالتلقي
“بدأت حفظ القرآن الكريم في سن الثالثة، وأتممت حفظه كاملًا في الثامنة من عمري”، بهذه الكلمات استهل الشيخ محمد حديثه معنا، متحدثًا عن فضل تربية والديه ودعمهما المستمر، حيث نشأ في أسرة ريفية بسيطة تهتم بالقرآن الكريم وتجعله أولوية في الحياة، وكرّست والدته كل جهدها ووقتها لتعليمه وخدمته هو وأشقائه الثلاثة، حتى أصبحوا جميعًا من حفظة كتاب الله، رغم أنهم من ذوي البصيرة.
-رحلةٌ من التحدي إلى النور
“لا يوجد تحد أو صعوبات تواجه الإنسان أكثر من نفسه”، هكذا وصف الشيخ محمد الصعوبات التي واجهته في طفولته في الحركةِ والتنقلِ واللعبِ، بل وحتى في الحفظِ، لكن إرادةَ الله أضاءت في قلبه نورًا يَقظًا، فألهمهُ المثابرة على حفظِ القرآنِ الكريمِ عن طريقِ التلقّي والاستماعِ، حيث كانت إذاعةُ القرآن الكريم مُعلمه الأول، ومصحفُ الشيخ الحصري المرتل خيرَ دليلٍ له حيث تأثر به كثيرًا، حتى صار حفظُه بهذه الطريقة سر إتقانه لمخارج الحروف وإجادةِ أحكام التجويد.
ولم يقتصر عطاؤه على ذلك، بل بعد إتقانه لطريقة برايل، انطلقَ يُبحِرُ في علومِ القرآنِ واللغة العربيةِ، ليُكمِلَ مسيرتهُ بعزيمة لا تعرف المستحيل.
-تفوقٌ ونبوغ في محراب الأزهر
وُلد الشيخ محمد في مدينة طهطا بمحافظة سوهاج، ثم انتقل مع أسرته إلى الإسكندرية، والتحق في بداية تعليمه بمدارس وزارة التربية والتعليم، وبعدها التحق بمدارس تابعة للأزهر، فكان للأزهر فضلٌ كبيرٌ عليه في تعليمه وتنشئته، حسبما ذكر.
تفوق في دراسته حتى حصل على المركز الأول على مستوى المحافظة في المرحلتين الابتدائية والإعدادية الأزهرية.
-مفارقة القدر من حُلم زيارة الأزهر إلى إمامة المحراب
في مفارقةٍ تُبرز حكمةَ القدر، لم يطأ الشيخ محمد -رغم دراسته الأزهرية وسفره المتكرر إلى القاهرة- أرضَ المسجد الأزهر طوال حياته، ظلّ حلم الصلاة بين رواقه يراوده، لكن الأقدار كانت تخبئ له مفاجأةً أعظم، وهي أن يبدأ عهده بهذا الصرح التاريخي إمامًا يرتقي المنبر في شهر رمضان، يقود صلاة آلاف المصلين من مختلف الجنسيات والمراتب العلمية.
-كيف تم اختياره للصلاة في الأزهر الشريف؟
بدأت القصة في رمضان قبل الماضي، حين أطلق الأزهر مسابقة استثنائية لتسجيل المصحف المرتل، تنافس فيها أكثر من 160 ألف طالب، لم يُختَر منهم سوى 10 أشخاص فقط.
خضع النخبة لدورة تدريبية مكثفة في مركز الأزهر للقراءات القرآنية، تحت إشراف خيرة المشايخ، كالدكتور عبدالكريم صالح، رئيس لجنة مراجعة المصحف، والشيخ حسن عبدالنبي.
وبعد اختبارات دقيقة، وقع الاختيار على اثنين فقط لقيادة صلاة التراويح في الجامع الأزهر، وكان الشيخ محمد أحدهما، ليحقق بذلك حلمًا لم يكن حتى يتخيّله، حسبما وصف.
-بين الاستعداد والرهبة.. ولحظات لا تُنسى
عندما تلقى الشيخ محمد في سبتمبر الماضي خبر مشاركته في صلاة التراويح بالمسجد الأزهر، لم ينتظر لحظةً حتى بادر بإبلاغ والدته، لكن ردّ فعلها فاجأه تمامًا! فقد بدأت على الفور بالبحث عن سكن في القاهرة، رغم تأكيده لها أن المشاركة ستكون ليوم واحد فقط، ولكن كان قلب الأم يرى ما لا يراه الآخرون، فحزمت له متاعًا يكفي لشهر كامل.
بدأ الشيخ محمد يستعد لهذه اللحظة غير مصدق، فهو يرى الأزهر يزخر بالقامات العلمية والمواهب التي تستحق أن تكون في هذا المقام الجليل.
قال: “كنتُ أشعر برهبةٍ شديدة، خاصةً في استراحة الأئمة قبل الصلاة، لأنني أدرك أن هذه ليست تلاوةً عادية، بل هي أمانة ومسئولية”، متابعا، “الناس يقولون إنني كنتُ هادئًا، لكن الحقيقة أن الرهبة كانت تلازمني قبل التلاوة وبعدها، أما أثناءها فتنزل سكينة الله”.
-إثناءات وطلبُ إمامته لليالٍ أخرى
بينما كان الشيخ محمد يجلسُ في استراحة الأئمة، لا يُصدق أنه قبل لحظات كان إمامًا في الأزهر الشريف، فوجئ بدعوةٍ من قيادات الأزهر، مؤكدا أنه أثناء اللقاء، انهالت كلماتُ الثناءِ على تلاوتهِ التي جمعتْ إتقانَ المخارجِ، وجمالَ الأداءِ، وإحكامَ التجويد، ثم جاء القرارُ بأنه سيؤمُّ المصلينَ في الليلةِ التاليةِ، ولم تكن في الحقيقة إلا بدايةً لـ 11 ليلةً متتاليةً صلى فيها بآلاف الوافدين، ليتحقق بذلك إحساس والدته.
-أمٌّ تبكي فرحًا.. وكلمات تعجزُ عن وصفِ المشاعر
كانت لحظة مهيبة لوالدة الشيخ محمد، التي استقبلت القرار بدموع ممزوجة بالفرح والامتنان لله، حيث صلت خلف نجلها في أول مرةٍ تدخل فيها محراب الأزهر، ووصفت شعورها حينها: “نسيت كل تعب السنين وكل اللي فات، حسيت إن ربنا بيطبطب عليا وبيقولي: ثمرة زرعتك أهي، وأنا بصلي ورا ابني وهو إمام المسجد في الأزهر.. الحمد لله، ربنا رضاني وأكرمني وعوضني”.
-ضجة على السوشيال ميديا.. وتواضع في قلب الشهرة
أثارت فيديوهات تلاوة الشيخ محمد للقرآن الكريم تفاعلًا واسعًا على منصات التواصل الاجتماعي، حيث انتشر أداؤه العذب في كل مكان حتى أصبح صوته يُردّد في الشوارع والمجالس.
وعن هذه الضجة، كشف الشيخ محمد بتواضعٍ لافت أنه “لا يلتفت عادةً إلى مدح المادحين ولا ذم الذامين”، مؤكدًا أنه لم يعتد سماع تسجيلات صوته بعد الصلاة.
لكن كثرة الحديث عن فيديوهاته وتكرار سماعها دفعه في النهاية للاستماع إلى نفسه، فقال: “كنت أسأل الله الإخلاص في النية قبل كل صلاة، وأحرص على التركيز في الآيات، لأني أتعلّم السورة التي سأتلُوها قبل الصلاة بيوم، فكان همّي الأكبر ألا أخطئ، وكان فضل الله علي عظيمًا”.
-مسيرة قصيرة وإنجازات كبيرة
في سنوات عمره القليلة، كتب الشيخ محمد سطورًا من التميز والإنجاز، حيث حصد جوائزَ محليةً وعالميةً تُوّجت بتكريم من الرئيس عبدالفتاح السيسي رئيس الجمهورية في احتفالية ليلة القدر 2022، بعد فوزه بالمركز الثاني في المسابقة العالمية الثامنة والعشرين لوزارة الأوقاف “دورة الشيخ محمد صديق المنشاوي”.
ولم يتوقف عطاؤه عند ذلك، ففي نوفمبر الماضي مثّل مصر بجدارةٍ في جائزة الكويت الدولية لحفظ القرآن الكريم، محقّقًا المركز الخامس وسط منافسة شرسة.
ولم يكن القرآن وحده محور تفوّقه، بل امتدّت إنجازاته إلى مجال الفكر واللغة، حيث تُوّج بالمركز الأول على مستوى الوطن العربي في “تحدي القراءة العربي” بدبي 2023 لفئة ذوي الهمم، متفوقًا على 39 ألف مشارك.
كما أثرى المكتبةَ الإسلامية بأبحاثٍ عميقةٍ ناقشت أخطاء اللغة العربية وقضايا المرأة، مستندًا إلى مراجعَ رصينةٍ مثل كتب الإمام الغزالي.
-اتساع الحلم من التلاوة إلى التدريس
لم يقتصر طموح الشيخ محمد على أمنيته في الطفولة، التي تحدث عنها في فيديو متداول، حيث كان يحلم بأن يصبح من أبرز قراء الوطن العربي، بل اتسع حلمه اليوم ليشمل الوقوف إمامًا في محراب الجامع الأزهر، وأن يكون معلمًا في إحدى قاعات جامعة الأزهر.